أيها الآباء والأمهات: اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم
ألا تحبون أن يكونوا لكم سواء في البر والدعاء؟!
أولاً: حكم التفضيل وعدم التسوية في الهبة والوصية للأبناء
ثانياً: كيفية التسوية بين الأبناء في الهبة والوصية
ثالثاً: حكم الرجوع في الهبة، إنْ لم يسو بينهم فيه
رابعاً: هل يجوز تخصيص أحد الأبناء أو البنات بهبة أو وصية لفقر أو زمانة أو صلاح؟!
خامساً: الوقف الأهليَ الذري
سادساً: ويل ثمَّ ويل لمن يحرم البنات والأخوات، من الآباء والأخوان
سابعاً: هل يجوز للمرء توزيع تركته في حياته قبل الممات؟
بالعدل أمر الكتاب فقال عز من قائل: "اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"1، "إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ"2، ونطقت السنة، فعندما اعترض ذو الخويصرة التميمي أصل الخوارج على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اعدل، قال له: "ويحك من يعدل إنْ لم اعدل؟"3.
فبالعدل قامت السماوات والأرض، وبالعدل ينصر الله الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة، وبالعدل يعيش الناس أمن وأمان، ومحبة وسلام.
وبضدها تتميز الأشياء، فالعدل ضده أو عكسه الظلم، فهو ظلمات يوم القيامة؛ لأنَّ عاقبته وخيمة؛ فهو ينزع البركات، ويمنع من إجابة الدعوات، ويؤدي إلى انتشار الأمراض، والكوارث والآفات.
أمَّا بعد:
فهذا بحث عن حكم التفضيل بين الأبناء في الهبة والوصية، عن:
1. حكمه.
2. كيفية التسوية.
3. حكم الرجوع في الهبة إنْ لم يسو بين أبنائه.
4. وهل يجوز تخصيص أحد الأبناء بهبة، أو وصية، أو نذر لفقره، أو زمانته، أو صلاحه، أو بره؟.
5. الوقف الأهلي أو الذري.
6. ويل ثمَّ ويل لمن يحرمون البنات من الآباء والاخوان.
7. وهل يجوز للمرء توزيع تركته في حياته قبل الممات؟.
فأقول وبالله التوفيق:
بداية الصفحة
أولاً: حكم التفضيل وعدم التسوية في الهبة والوصية للأبناء
ذهب أهل العلم رحمهم الله في ذلك مذاهب:
1. التفضيل حرام والتسوية واجبة: أحمد وإسحاق وداود.
2. التفضيل مكروه والتسوية مستحبة: الجمهور، منهم مالك والشافعي.
3. التفضيل لعلة يجوز: رواية عن أحمد.
4. يجوز التفاضل إنْ لم يرد به الاضرار: أبو يوسف.
استدل المحرمون للتفضيل الموجبون للتسوية بما صح4 عن النعمان رضي الله عنهما أنَّه قال: (أعطاني أبي عطية، فقالت عَمْرَة بنت رواحة ـ أمه ـ: لا أرضى حتى تُشْهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله فقال: إنِّي أعطيت ابني من عَمْرَة بنت رواحة عطية، فأمرتني أنْ أشهدك يا رسول الله، قال: "أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟"، قال: لا، قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". قال: فرجع وردَّ وصيته).
وفي رواية عنه: (أنَّ أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي نحلتُ ابني هذا غلاماً، فقال: "أكل ولدك نحلتَ مثله؟"، قال: لا، قال: "فارجعه"5).
وفي رواية عنه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أنْ يسووا بينكم في البر"6.
وفي رواية عنه7: أنَّ والدي بشير بن سعد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ عَمْرَة بنت رواحة نفست بغلام، وإنِّي سميته النعمان، وإنَّها ابت أنْ تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال هو لي، وأنَّها قالت: اشهد على ذلك رسول الله، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "لا أشهد على جور"، وفي رواية: "اشهد على هذا غيري".
واستدل القائلون باستحباب التسوية وكراهية التفضيل، بالرواية التي فيها: "اشهد على هذا غيري"، فكأنه تنزه هو أن يشهد، وأذن لغيره أن يشهد، وفي هذا الاستدلال بُعْد وَلَيْ لعنق الحديث.
واستدل القائلون بجواز التفضيل لحاجة تدعو إليه لزمانة أو فقر أو عالة، أو صلاح ونحوه، بأن ابن عمر رضي الله عنهما منح ابنه واقد دون ابنائه الآخرين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث النعمان بن بشير السابق: (وقد تمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد، وبه صرَّح البخاري، وهو قول طاوس، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وقال به بعض المالكية، ثمَّ المشهور عن هؤلاء أنَّها باطلة، وعن أحمد تصح ويجب أنْ يرجع، وعن أحمد يجوز التفاضل إنْ كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته ودينه أو نحو ذلك دون الباقين.
وقال أبو يوسف ـ صاحب أبي حنيفة ـ: تجب التسوية إنْ قصد بالتفضيل الاضرار. وذهب الجمهور إلى أنَّ التسوية مستحبة، فإن فضل بعضاً صح وكره، واستحبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع.
فحملوا الأمر على الندب والنهي على التنزيه، ومن حجة من أوجبها ـ أنها مقدمة على الواجب ـ؛ لأنَّ قطع الرحم والعقوق محرمان، فما يؤدي إليهما يكون محرماً، والتفضيل مما يؤدي إليهما)8.
وقال ابن دقيق العيد في شرح حديث النعمان السابق: (والحديث دلَّ على طلب التسوية بين الأولاد في الهبات، والحكمة فيه أن التفضيل يؤدي إلى الايحاش، والتباغض، وعدم البر من الولد لوالده، أعني الولد المفضل عليه.
إلى أن قال: واختلف الفقهاء في أنَّ التفضيل هل هو محرم أو مكروه؟، فذهب بعضهم إلى أنه محرم لتسميته صلى الله عليه وسلم إياه جوراً، وامره بالرجوع فيه سيما إذا أخذنا بظاهر الحديث أنه كان صدقة، فإنَّ الصدقة على الولد لا يجوز الرجوع فيها، فإن الرجوع هنا يقتضي أنها وقعت على غير الموقع الشرعي حتى نُقِضَتْ بعد لزومها.
ومذهب الشافعي ومالك: أن هذا التفضيل مكروه لا غير، وربما استدل على ذلك بالرواية التي قيل فيها: "اشهد على هذا غيري"، فإنَّها تقتضي إباحة اشهاد الغير، ولا يُباح إشهاد الغير إلاَّ على أمر جائز، ويكون امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من المباشرة لهذه الشهادة معللاً بأنها جور فيخرج الصيغة عن ظاهر الإذن بهذه القرائن.
ومما يستدل به على المنع أيضاً قوله: "اتقوا الله"، فإنه يؤذن بأنه خلاف التسوية ليس بتقوى، وأن التسوية تقوى)9.
وقال البيجاني رحمه الله في شرح حديث النعمان السابق: (وظاهر الحديث يدل على وجوب المساواة بينهم إلاَّ إذا رضوا ووافقوا على ماصنع أبوهم، كما وقع ذلك بين أولاد أبي بكر وعمر فيما جعله الصديق لعائشة، ثم رجع عنه عند موته لأنها لم تقبضه10، وكذلك جعل الفاروق لولده عاصم بن عمر.
ومن أراد بر أبنائه، وأنْ يترحموا عليه إذا مات، ولا تكون بعده خصومه، فليتق الله وليسوِّ بينهم، وليجعلهم عنده بمنزلة واحدة، لايفضل أحداً على أحد إلاَّ يعلم أو عمل صالح)11.
الراجح من مذاهب أهل العلم السابقة أنَّ التسوية واجبة بين الأبناء، وأنَّ تفضيل بعضهم على بعض من غير علة حرام ولا يجوز، وإنْ وُجِدَ سبب للتفضيل لا يتم ذلك إلاَّ برضا جميع الأبناء، ومن باب أولى وبالأحرى تفضيل بعض الزوجات على بعض فهو أشد حرمة وأعظم جرماً، والله أعلم.
بداية الصفحة
ثانياً: كيفية التسوية بين الأبناء في الهبة والوصية
ذهب أهل العلم في كيفية التسوية بين الأبناء الذكور والإناث في الهبة والوصية إلى قولين، هما:
1. يسوي بين ذكرهم وأنثاهم.
2. يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنَّ هذا نصيبهم لو لم يهب ويُوصَ لهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (ثمَّ اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن12، وأحمد، وإسحاق، وبعض الشافعية، والمالكية: العدل أنْ يعطي الذكر حظين كالميراث، واحتجوا بأن ذلك حظه من المال لو أبقاه الواهب في يده حتى مات.
وقال غيرهم: لا فرق بين الذكر والأنثى، وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهم، واستأنسوا بحديث ابن عباس رفعه: "سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء"، اخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه، وإسناده حسن)13.
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله: (قوله: "أكل بنيك نحلته مثل هذا؟"، تنبيه على أنَّ الإنسان إذا أعطى بنيه سوى بينهم، ذكرهم وأنثاهم، وأنَّ ذلك الأفضل، وإليه ذهب القاضي أبو الحسين بن القصار من أصحابهم14، وجماعة من المتقدمين. وذهب آخرون منهم عطاء، والثوري، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وابن شعبان من أصحابنا: إلى أنَّ الأفضل: للذكر مثل حظ الأنثيين على قسمة الله تعالى للمواريث)15.
وقال البيجاني: (وإذا وجدت التسوية بينهم فهل يجعل الذكور كالإناث، أم يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؟، خلاف بين العلماء في المسألة، والظاهر وجوب التسوية بين الذكور والإناث)16.
الذي يترجح لدي من قولي العلماء رحمهم الله: إذا وهب لجميع أولاده أنْ يعطي للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك لسببين:
الأول: أنَّ هذا هو نصيب الذكر إنْ ترك الهبة.
الثاني: أنَّ حاجة الذكر أكبر وأشد من حاجة الأنثى للمال، فالأنثى إذا تزوجت فزوجها يتحمل مسؤوليتها وإن لم تتزوج أو طلقت أو مات زوجها رجعت المسؤولية للأب والأخوان والله أعلم.
بداية الصفحة
ثالثاً: حكم الرجوع في الهبة، إنْ لم يسو بينهم فيها
كذلك لأهل العلم في ذلك قولان:
1. لا يرجع في هبته، لا لولده، ولا لغيرهم لعموم قوله لعمر رضي الله عنه: "ولا تعد في صدقتك وإنْ أعطاكه بدرهم فإنَّ العائد في هبته كالعائد في قيئه"، وفي لفظ: "فإنَّ الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه، يقيء ثمَّ يعود فيه"17.
2. يرجع إنْ لم يسو بين أبنائه، لأمره صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد أنْ يرجع عن عطيته لابنه النعمان، وهذا هو الراجح لأنَّ أمره لبشير خص من النهي العام، والله أعلم.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله في شرحه لحديث عمر السابق: (وفي الحديث دليل على المنع من الرجوع في الصدقة والهبة لشبهه برجوع الكلب في قيئه، وذلك يدل على غاية التنفير: والحنفية اعتذروا عن هذا بأنَّ رجوع الكلب في قيئه لا يوصف بالحرمة لأنه غير مكلف، فالتشبيه وقع بأمر مكروه في الطبيعة لتثبت به الكراهة في الشريعة.
وقد وقع التشديد في التشبيه من وجهين: أحدهما، تشبيه الراجع بالكلب، والثاني، تشبيه المرجوع فيه بالقي.
وأجاز أبو حنيفة رحمه الله رجوع الأجنبي في الهبة ومنع من رجوع الوالد في الهبة لولده عكس مذهب الشافعي رحمه الله. والحديث يدل على منع رجوع الواهب مطلقاً، وإنما يخرج الوالد في الهبة لولده بدليل خاص18)19.
وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث النعمان السابق: (واستدل به أيضاً على أنَّ للأب أنْ يرجع فيما وهبه لابنه وكذلك الام، وهو قول أكثر الفقهاء، إلاَّ أنَّ المالكية فرقوا بين الأب والأم، فقالوا: للأم أن ترجع إنْ كان الأب حياً دون ما إذا مات، وقيدوا رجوع الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لم يستحدث ديناً أو ينكح، وبذلك قال إسحاق.
وقال الشافعي: للأب الرجوع مطلقاً. وقال أحمد: لا يحل لواهب أنْ يرجع في هبته مطلقاً. وقال الكوفيون20: إنْ كان الموهوب صغيراً لم يكن للأب الرجوع، وكذا إذا كان كبيراً وقبضها. قالوا: وإنْ كانت الهبة لزوج من زوجته أو بالعكس، أو لذي رحم لم يجز الرجوع في شيء من ذلك، ووافقهم إسحاق في ذي الرحم، وقال للزوجة أن ترجع بخلاف الزوج.
إلى أن قال: وحجة الجمهور في استثناء الأب أنَّ الولد وماله لأبيه، فليس في الحقيقة رجوعاً، وعلى تقدير كونه رجوعاً، فربما اقتضته مصلحة التأديب ونحو ذلك)21.
بداية الصفحة
رابعاً: هل يجوز تخصيص أحد الأبناء أو البنات بهبة أو وصية لفقر أو زمانة أو صلاح؟!
لا شك أنه يجوز لأحد الوالدين أنْ يخص أحد أبنائه، ذكراً كان أم أنثى بهبة لعلة خاصة به كفقره أو لزمانته، أو لصلاحه أو ما شابه ذلك إلى حين يقترب أجله أم على التأبيد.
ودليل ذلك منح أبي بكر لعائشة رضي الله عنهما جادَّ22 عشرين من ماله بالغابة، ولم ينحل غيرها من ولده شيئاً من ذلك، ولأنَّ الأصل جواز تصرف الإنسان في ماله مطلقاً ثم أمر أنْ ترجع ذلك عند وفاته23.
وما فعله أبو بكر فعله عمر مع ابنه عاصم وعبد الله بن عمر مع ابنه واقد.
أمَّا إذا كانت الهبة على التأبيد فتحتاج إلى رضا الورثة في حياة الأب وبعد وفاته، فإن رضوا حال حياة أبيهم ونكلوا بعد الوفاة رد الموهوب.
وقد أجاز ذلك بعض أهل العلم، وإنْ كانت على التأبيد، منهم مالك بن أنس رحمه الله وغيره.
قال أبو العباس القرطبي: (وإلى التحريم24 ذهب طاوس، ومجاهد، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأن ذلك يفسخ إن وقع. وذهب الجمهور، مالك في المشهور عنه والشافعي، وأبو حنيفة إلى أنَّ ذلك لا يفسخ إذا وقع. وقد حكى ابن المنذر عن مالك جواز ذلك ولو أعطاه ماله كله. وحكى غيره عن مالك: أنه إن اعطاه ماله كله ارتجعه. قال سُحنون: من أعطى ماله كله ولده أو غيره، ولم يبق له ما يقوم به لم يجز فعله) 25.
وقال الحافظ بن حجر وهو يعدد أجوبة من حمل التسوية على الندب: (تاسعها عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أنَّ الأمر للندب، فأمَّا أبو بكر فرواه الموطأ بإسناد صحيح عن عائشة أنَّ أبا بكر قال لها في مرض موته: إنِّي كنت نحلتك نخلاً، فلو كنت اخترتيه لكان ذلك، وإنَّما هو اليوم للوارث. وأمَّا عمر فذكره الطحاوي وغيره أنه نحل ابنه عاصماً دون سائر ولده، وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأنَّ اخوتها كانوا راضين بذلك. ويُجاب بمثل ذلك عن قصة عمر)26.
بداية الصفحة
خامساً: الوقف الأهليَ الذري
الوقف إمَّا أنْ يكون خيرياً للفقراء والمساكين، ولأي وجه من وجوه الخير، وإمَّا أنْ يكون قاصراً على العقب والأولاد.
فمن أوقف شيئاً من العقار أو الأرض الزراعية على ابنائه فعليه أنْ يتق الله، ولا يجوز في هذه الحال أن يجعله لبعض بنيه دون الآخرين، أو في الأولاد دون البنات.
فإن قال : لولدي، يدخل فيه أولاده الذكور وإن سفلوا، أمَّا البنات فلا يشمل إلاَّ بناته لصلبه، أمَّا ابناؤهن فلا يدخلوا.
وإنْ قال لعقبي: فيدخل فيه الذكور والإناث، وإنْ سفلوا.
لكن الوقف الأهلي عليه محاذير، بعضها ناتج من النظار وهم مديرو الوقف والمشرفون عليه، والبعض الآخر ناتج من كثرة الأحفاد واختلافهم مع مرور الزمن، ولذلك تحفَّظَ فيه بعض أهل العلم.
قال الشيخ البيجاني محذراً من تفضيل بعض الأبناء على بعض، ومن الحيل التي يسلكها البعض لتحقيق ما يريد: (ومن الناس من يقول: نذرت بهذا، أو وهبت هذا لولدي فلان دون اخوته، ثمَّ يبقيه في يده وتحت تصرفه إلى أنْ يموت، أو يقول إذا كان قبل مرض موته بثلاث أيام: فقد جعلت كذا وكذا لفلان من أولاده، وهي حيلة وضعها علماء السَّوْء للذين لا يخافون الله ولا يتقونه أحياءً ولا أمواتاً، فتقوم الخصومات، وتثور الأحقاد، ويقع الظلم، وتقطع الأرحام، ويقولون عنه: لا رحمه الله ولا غفر له.
وقد تحسن نية الإنسان، او يريد حفظ التركة لأولاده فيجعلها وقفاً عليهم، ولكنها لا تمر إلاَّ مدة قصيرة فتكثر الأسرة، ويتعدد الأولاد، وتتشعب الانساب، ويتنافس النظار، فيتنازعون ثم يتقاتلون، أو يدلون بأموالهم إلى الحكام، ولذلك أبطلت الأوقاف الأهلية في كثير من البلاد الإسلامية.
والله تعالى أعلم بمصالح عباده، وما جعل الفرض والتعصيب، وتولى قسمة المواريث بنفسه إلاَّ ليأخذ كل ذي حق حقه، ولئلا يخرج الناس من حزن على ميتهم إلى مخاصمة ومحاكمة بين البنين والبنات، والآباء والأمهات، والإخوة والأخوات، وهو القائل: "يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا"27)28.
بداية الصفحة
سادساً: ويل ثمَّ ويل لمن يحرم البنات والأخوات، من الآباء والأخوان
لقد تولى قسمة المواريث ولمْ يكلها لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يحل لأحد أنْ يتدخل فيها، بتقديم أو تأخير، أو منع، أو يعترض على قسمة الحكيم الخبير، فمن فعل ذلك فله الويل والثبور، وموعود بعظائم الامور، فهذا سلوك الجاهلين، ولا يليق بأمة النبي الرؤوف الرحيم.
قال البيجاني: (والذين يقصدون حرمان أولادهم، وألاَّ يكون لبناتهم شيء من التركة بعد الموت، فيهبون للذكور أو ينذرون لهم، فأولئك لا يجدون رائحة الجنة، ولا يقر جشعهم إلاَّ فاجر يعينهم على المعصية)29.
بداية الصفحة
سابعاً: هل يجوز للمرء توزيع تركته في حياته قبل الممات؟
البعض قد يخشى نزاع أولاده من بعده في توزيع الورثة، ولهذا يقوم بتوزبعها عليهم قبل مماته بالتراضي أحياناً، وبالتزام بالأنصبة الشرعية أحياناً.
لا شك أنَّ الاولى ترك ذلك، لكنه إنْ التزم التقسيم الشرعي، واطمئن أنه لا يوجد في رحم إحدى زوجاته جنين، فله ذلك.
لقد فعل ذلك الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه، لكن بعد وفاته ظهر حمل لإحدى زوجاته، فاهتم لذلك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ووزيره عمر فذهبا إلى ابنه قيس وطلبا منه أنْ ترد الورثة ويُعاد تقسيمها لتشمل هذا الجنين، فقال لهم: أمَّا شيء فعله سعد فلا أرده، ولكني متنازل لأخي هذا عن نصيبي من الورثة، أو كما قال.
الله وفقنا للعدل والإنصاف، وحل بيننا وبين الظلم والاجحاف، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على إمام المرسلين وسيد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.