- ثقافة التواضع المدهش ..
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوتى الكرام :
لفت إنتباهى هذا المقال الذى قرأته فى إحدى الصحف الليبية ( صحيفة أخبار بنغازى )
للكاتب / عذاب الركابى وهو ليس من باب الدعاية ، ولكن لفت نظرى هذا المقال
واوجزه لكم فى الآتى :
1- يقول الكاتب ( تعال لزيارتى ، وسأطلعك على مكتبتى ، لن تجد بها كتابا واحدا من هذا ..
من أنا لأضع نفسى إلى جوار سير توماس براون أو إمرسون .. أنا لست بأحد ) .
خورخى بورخس :
فى عبارته الجميلة والمعبرة رسم العبقرى بورخس بإصبع كرستالى
الصورة الناصعة للتواضع .. تواضع المثقف الحقيقى الذى هو نبض واقعه .. وضميرعصره
والشاهد الأمين على زمنه !! ..
2- ( إننى كالطفل الذى يلهو بحصاة على شاطىء البحر .. ) .. !!
تلك كانت إجابة العالم ( انشتاين ) عندما سئل عن رأيه بنفسه كعالم ، وكعبقرى ، وفيلسوف ..
وهى صورة أخرى خالدة لتواضع الإنسان - المبدع الذى منحه الله القدرة على تفسير الكون ووضع
قوانين علمية ، تربتها العقل - تفاحة الجسد ، وهى فى طعمها .. ولونها تضيف للحياة وجها جديدا ..
وممعنى أعمق !! ..
وهناك صور كثيرة تتزاحم على بوابة ذاكرتى ، وهى مذهلة صادفتنى وأنا أقرأ - حين أصبحت القراءة
مرضا لا شفاء منه - لسير الأدباء والكتاب والشعراء والفنانين .. وقد أجابت على الكثير من أسئلتى
المحيرة .. وأشعلت فى داخلى أسئلة أخرى أكثر حيرة .. جعلتنى استحضر حياة كتابنا وأدبائنا الذين
يتفرد القليل والقليل جدا منهم بصورة التواضع والحميمة .. وهى إن بدت من بعضهم فهى ضعيفة ..
باهتة وليست ممغنطة بخطى إنساننا الحالم ..
3 - وأنت تقرأ مذكرات الشاعر التشيلى - بابلو نيرودا تثقل بالدمع والدهشة ، وهو يصف طريقة
التحامه بالإنسان الظامى والمسحوق والمعدم .. وهو يجمع العمال والشغيلة ورجالا بسطاء ..
بائسين ، أكلت الأرصفة المهتزة أرجلهم ونحت الفقر والإنتظار أجسادهم ، يجمعهم على مائدة
حميميته وشفافيته كإنسان ، ليقرأ لهم قصائده الثورية و الإنسانية التى تتحدث عن همومهم
وموضوعها حياتهم يصف لك بقلب دام بالحزن ، مفعم بالمرارة كيف كانوا يبكون عند سماعهم
القصائد ، ولو أنهم ( لم يستطيعوا بأعينهم الهلكى قراءة تلك القصائد ) لكن دموعهم قالت كل شىء
اختصرت معنى القصائد ، وهى ترسم خطوطا حزينة على وجوههم ويبكى هو الآخر لأن أفعى الجوع
والقهر الشرسة قد استوطنت أحشاء ذلك النفر الطيب من الناس البسطاء .. والعشاق الصادقين
والمنهكين حتى الثمالة :
{ كل انتصار هو قشعريرة عظمى إذ حين ينتصر الشعب ، فذلك يعنى عمود الماء ، يكسر قمة الشهوة )
كان يقرأ لهم قصائده ، دون أن يشعر بالزمن ، وهم يجلسون على أرض باردة ، غير آبهين برطوبتها
وقسوتها .. المهم أن ينالوا شرف اللقاء به .. والإستماع لإشعاره الإنسانية .. المهم أن يبكوا وأن ينسوا
سجون قهرهم وعذابهم الجائرة ..
4 - وهذا الشاعر والعراف الأكبر والت ويتمان الذى كان يقضى أغلب وقته مع الباعة المتجولين وسائقى
الشاحنات وسيارات الأجرة ، مع المرضى فى المستشفى ، والمقعدين فى الشوارع وعلى الأرصفة المهتزة
مع المتسولين ، وليس فى ذهنه إلا أن يختصر همومهم ويذيب ثلج آلامهم .. وحيرتهم المزمنة .
إنها ثقافة التواضع الدهش !! ..
{ آه .. أيها البائس ، ها هى ذى عنقى ، والله لن تسقط اعتمد بكل ثقلك على .. }
وهذا تشيخوف ونصيحته الهادفة : ( سافروا دائما بالدرجة الثالثة فى القطار ) .. !!