العالم الرباني سفيان الثوري
زيّنوا العلم بأنفسكم ولا تزيّنوا بالعلم
ولد سفيان بن سعيد الثوري في خلافة سليمان بن عبد الملك عام 97 للهجرة, وهو من قبيلة ثور المنشقة من قبيلة مضر ومن أسرة تعنى في العلم, فوالده كان محدثا صادقا ومعروفا بين أوساط العلماء, واعتنى به ووجهه الى العلم وهو لا زال حدثا, وقد نبغ في وقت مبكر, وما ذاك الا لما وهبه الله من العقل المتفتح الذي أهله لأن يكون حاد الذكاء سريع الحفظ والبديهية, لدرجة أنه كان يحفظ كل ما يسمع, وامه كانت تحثه على تلقي العلم, حيث ذات يوم قالت له: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي هذا (كانت تعمل بالغزل لتؤمن له نفقة دراسته) وقالت ذات مرة: يا بني ! اذا كتبت عشرة أحرف ولم ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك.
تنشئة طيّبة
من هذا البيت الصالح خرج سفيان رحمه الله, من أب محدث صادق وأم تدفعه الى العلم دفعا, هذا عدا عن أنه تلقى علومه وتتلمذه على يد أكثر من 500 شيخ فقيه.
يقول سفيان رحمه الله: عندما أردت طلب العمل قلت يا رب! رلابدّ لي من معيشة, وعندما وجدت العلم يندثر, قلت: لا بدّ من احياؤه, وسألت الله الكفاية, وكان يقول اعمل لدنياك على قدر بقاءك فيها, واعمل لآخرتك على قدر بقاءك فيها, فالانسان يجب أن يكره ولده على طلب الحديث , فانه مسئول عنه, ورغم العلم الزاخر الذ نهله الا أنه كان شديد التواضع, وكان يقول: لا أوال أتعلم العلم ما وجدت من يعلني, ولو لم يأتني أصحاب الحديث ليتعلموا, لآتينهم في بيوتهم.
من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
كان اماما لامعا من أئمة المسلمين المعدودين في ذلك الزمان, وكان علما من أعلام الدين المشهود لهم بالورع والتقوى والصلاح, مع الاتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد, وكان يستفتي الناس قبل أن يبلغ الحلم, لا عجب في ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
حاد الذكاء وسريع البديهية
رزقه الله عقلا يستوعب ما يسمعه من الوهلة الأولى, فقد كان فطنا حاد الذكاء, وفي ذلك يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني…
والعقل اذا اتصل مع القلب وصل صاحبه الى ما يريد, ذلك أنّ العقل والقلب يشكلان خشية وخشوعا في صاحبه, وكانت هذه النظرية واضحة عليه من خلال ورده اليومي, حيث كان يقسّم ليله الى جزئين: جزء لقراءة القرآن وتدبر آياته وقيام الليل, والجزء الثاني لقراءة الحديث وحفظه, لأجل ذلك كان أكثر معاصريه حفظا لأحاديث النبي صلى اله عليه وسلم.
تقواه وزهده وورعه
التقوى والورع والزهد نعم عظيمة من نعم الله تعالى, وما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه درجة النبوة وبشهادة النبي صلى الله عليه وسلم , الا من خلال توفر هذه الخصال الحميدة فيه رضي الله عنه, لأجل ذلك نجد الذين قلوهم معلقة بالآخرة يحذون حذو أولياء الصالحين الذين اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عن قرب, وسفيان واحدا من هؤلاء الذين اقتدوا بالامام العادل عمر رضي الله عنه, ولشدة خشيته من الله عزوجل كان يقول: ما بلغني حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الا عملت به ولو مرة واحدة.. وكان يخشى أن يقابل الله فيسأله عن كل حديث حفظه , هل عمل به أم لا……
وقوله في الزهد: ليس الزهد بأكل الغليظ من الطعام ولا بلبس الخشن من الثياب, وانما هو في قصر الأمل وترقب الموت... وكان كثيرا ما يقول: اني لأرى الشيء الموجب لي بأن اتكلم فيه فلا أستطيع تغييره , فأبول دما (حزنا).. وكان رحمه يبتعد ما أمكنه عن أبواب الأمراء والسلاطين.
مرض البعد عن الله
جاء رجل الى سفيان الثورى وقال له: انى أشكو من مرض البعد عن الله فما العلاج؟
فقال له سفيان رحمه الله: يا هذا عليك بعروق الاخلاص وورق الصبر وعصير التواضع ، ضع هذا كله فى اناء التقوى وصب عليه ماء الخشية وأوقد عليه بنار الحزن وصفه بمصفاة المراقبة ، وتناوله بكف الصدق وأشربه من كأس الاستغفار وتمضمض بالورع وابعد عن الحرص والطمع ، تشفَ من مرضك باذن الله.
حلمه رحمه الله
كان يستفتي الناس مذ كان حدثا وقبل أن يبلغ الحلم, وقد اكتسب هذه الموهبة من تعمقه في الفقه والعلم وتتلمذه على أيدي علماء وفقهاء كثر, وكان لا يتسرّع في الفتوى أبدا, بل يعطيها حقها ووقتها حتى لا يفتي فتوى يتحمل وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة.
عبادته رحمه الله
كان يقسم الليل الى جزئين: جزء لقراءة القرآن وقيام الليل, والجزء الثاني لقراءة الحديث وحفظه... كان يكثر من قيام الليل لدرجة أنه كان يرفع ساقيه على الجدار بعد كل قيامالليل حتى يعود الدم الى رأسه.
كان كثير السجود طويله, لدرجة أنه كان يسجد السجدة من بعد صلاة المغرب ولا يرفع رأسه منها الا لصلاة العشاء.
خشيته رحمه الله
كانتخشيته أبلغ من ان توصف, حتى أنه قيل عنه أنه كان يبول دما من شدة خوفه من الآخرة, وكان يخشى أن ينتزع الايمان منه قبل الموت.
البكّاء
كان شديد البكاء كثيره, وكان يخشى الله عزوجل في علمه وعمله, وكان شدسد الخوف من أن يسلب الايمان منه قبل الموت, لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: اللهم ثبت قلبي على دينك دين الحق الاسلام.
مواعظه رحمه الله
* اعمل لدنياك بقدر بقاءك فيها واعمل لآخرتك بقدر بقاءك فيها.
* لو لم يأتني أصحاب الحديث لتعلموا لآتينهم بيوتهم.
* يجب أن يكره (يجبر) ولده على طلب الحديث, فانه مسئول عنه.
* زينوا العلم بأنفسكم ولا تزيّنوا بالعلم.
* احذر سخط الله في ثلاث: أن تقصّر فيما أمرك... أن يراك الناس وأنت لست راض بما قسم الله لك... وأن تطلب شسئا من الدنيا فلا تجده فتسخط على ربّك.
* ثلاثة من الصبر: لا تحدّث بمصيبتك.. ولا بوجعك.. ولا تزك نفسك (ابتعد عن ال أنا)
* لا تخاف في الله لومة لائم... وهذا هو شعاره رحمه الله.
ماذا قال عنه معاصروه؟
· الامام عبد الله بن المبارك: كنت أقعد الى سفيان الثوري فيحدث, فأقول ما بقي شيء من علمه الا وقد سمعته, ثم أقعد عنده مجلسا آخرا فأقول: ما سمعت من علمه شيئا, وكتبت عن الف ومائة شيخ, وما كتبت عن أفضل من سفيان.
· الامام ابن عيية: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري, واصحاب الحديث ثلاثة: الشعبي في زمانه, والثوري في زمانه, وابن عباس في زمانه.
· الامام ابن مهدي: ما رأت عيناي أفضل من أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من سفيان..ولا أشدّ تقشفا من شعبة...ولا أعقل من مالك... ولا أنصح للأمة من ابن المبارك.
· الامام شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم, انه أمير المؤمنين في الحديث.
· الامام أحمد بن حنبل: أتدرون من الامام؟ الامام سفيان الثوري’ لا ىيتقدمه أحد في قلبي.
· الامام المثنى بن الصباح: سفيان علم الأمة وعابدها.
· بشر الحافي: سفيان في زمانه كأبي وعمر في زمانهما.
· الامام الذهبي: كلن سفيان رأسا في الزهد والخوف, رأسا في العلم والمعرفة والفقه, ولا يخلف في الله لومة لائم.
· وقال الامام الأوزاعي: لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلا يقوم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لاخترت سفيان الثوري.. رحمهم الله أجمعين وجمعنا بهم انشاء الله في مستقر رحمته.
وفاته رحمه الله
ولآخر يوم من عمره بقي صادق الوعد والعهد مع الله عابدا, متعلما, عبادة وخشية, وورعا وتقوى حتى وافاه الأجل في البصرة عن عمر يناهز ال 64 من العمر المبارك انشاء الله في السنة ال 161 للهجرة النبوية المباركة.
والله فوق كلّ ذي علم عليم